التراث الشعبي الرقي(طقوس الرعي والمراعي )

التراث الشعبي “الرقي” المادي
( طقوس الرعي والمراعي في “الرقة”)

المرعى في مفهومه العام الشامل، هي الأرض البرية بسهولها وهضابها التي تنبت فيها الأعشاب المتنوعة، التي يمكن للحيوانات أن تقتات عليها. والمرعى مكان مفتوح وطبيعي وغير مفلوح اي انه الأرض، التي يسودها النبت الطبيعي المناسب لرعي الحيوانات العاشبة والقاضمة أيضاً ..
كانت المراعي في منطقة “الرقة” بدءاً من القرن السابع عشر، وحتى نهاية سبعينيات القرن الماضي، تشكل مساحة واسعة من المساحة الإجمالية للمحافظة، وكانت عملية الرعي بحد ذاتها، تشكل خلال فصلي الخريف والربيع في عمق منطقة “الرقة”، وخاصة في جهة الشمال أسعد الأوقات وأجملها بالنسبة للرعاة، وحسب رأي الرعاة فإنّ فصل الخريف يعتبر أفضل فصول السنة بالنسبة لهم، حيث يجدون فيه متعة العيش بعيداً عن صخب القرية والمدينة، وحيث توجد مساقط الماء والكلأ، وتلبس الأرض حلة خضراء تزينها الأزهار والورود من كل لون وصنف. ويبدأ كبار السن في نزل الرعاة بتفحص السماء، فإذا هطل المطر في العشر الأواخر من شهر أيلول اطمأن الرعاة واستبشروا خيراً بهطول المطر في هذا الموسم، أما في حالة عدم هطول الأمطار في الفترة الآنفة الذكر، فإنّ الرعاة ينتقلون إلى حسابات أخرى، إذ أنهم يبدؤون بمراقبة السماء من بداية شهر تشرين الثاني، على أمل رؤية ومضات من البرق وسماع صدى الرعد من بعيد، مما يعني أنّ المطر سيهطل ولو بعد حين بمشيئة الله.
******************
ومهما كانت كمية الأمطار الهاطلة في أي سنة من السنوات، فإنّ فترة الرعي في فصل الخريف تعتمد على نوعية هذه الأمطار التي تهطل في المنطقة الجزرية الواقعة على يسار نهر الفرات، أو في منطقة الشامية الواقعة على يمين نهر الفرات، وعلى الأوقات التي تهطل فيها الأمطار. ومع نهاية فصل الخريف، يبدأ الرعاة بتدوين حسابات جديدة في أجندتهم، إذ نراهم يتتبعون أخبار المطر عن طريق إرسال فرق استطلاع إلى المناطق البعيدة، وخاصة إلى المناطق القريبة من الخط المطري في الشمال السوري، كما أنّ الرعاة يبدؤون في هذه الفترة بالسؤال للحصول على معلومات دقيقة من الناس القادمين من الجنوب، من مناطق مثل بادية الرصافة ومن “رحوب” ومناطق جبل البشري الغني بالمراعي الربيعية والصيفية. أو من منطقة “عين العرب”، ومناطق مثل “الزيدي” و”خراب سيار” و”الكنطري” في شمال “الرقة”، وفي حالة توفر معلومات متضاربة عن كمية هطول الأمطار في المناطق البعيدة، فإنّ أهل المشورة من الرعاة يقومون بإرسال من يستطلع الأمر على أرض الواقع. ومع بداية شهر تشرين الثاني يبدأ الرعاة بتتبع أخبار الهطولات المطرية في مناطق الحدود الإدارية للمحافظة، ويبدؤون بتحركات حذرة في مناطق الرعي وخاصة حول أبار الري مثل “بير المويلح” و”بير حنظل”، وأبار أخرى حول “الخويرة” وغيرها، وهذه الآبار في الغالب تكون آبار خاصة أو مشتركة بين أفراد العشيرة الواحدة، وأحياناً يفرض العرف العشائري على أن تكون الآبار مشتركة بين كل الرعاة الذين يشكلون فصيلاً واحداً.. وفي حالة حدوث سنوات عجاف في منطقة “الرقة”، يقوم الرعاة باستكشاف حالة الهطولات المطرية في المحافظات المجاورة، وبذلك يحددون اتجاه هجرتهم الرعوية الشتوية، سواءً كانت الشعاعية أو الدورانية
*******************
يقوم أصحاب الحلال ين بنصب بيوتهم (بيت الْشَعَرْ) المصنوع من شَعَرْ الماعز وفقاً لبرودة الطقس، ويرتب النزل في العادة على أن تكون البيوت إما في اتجاه الشرق، أو الجنوب للحصول قدر الإمكان على أشعة الشمس الدافئة صباحاً، وصيفاً تكون بيوت الشعر دائماً مشرعة نحو الغرب لاستقبال كمية النسيم البارد، وتنصب الخيام عادة في وقت الضحى، حيث تتابع الماشية الرعي حتى وقت الظهيرة، ويتم حلب الغنم بربط الأغنام بواسطة (حبل الشباك)، وهي متقابلة الواحدة تعانق الأخرى بشكل طولاني، حيث تبدأ الحلابات بحلب الماشية حتى النهاية، ثم أن كل واحدة منهن تعود إلى النزل بشكل حر وإفرادي، كي لا يفسد الحليب، ولكنهن حين يجئن من النزل لحلب الماشية، فإنهن يجئن بشكل جماعي وأحاديث تسر القلوب. في المساء قبيل غروب الشمس هناك حلبة ثانية للماشية حديثة الولادة، حيث نرى الحلاّبات يكررن نفس الحركة ونفس المسار الذي قمن به وقت الظهيرة من ذات اليوم نفسه، وبعد أنْ تنتهي الحلاّبات من حَلْبْ الماشية، يقوم الرجال بإطلاق البهم المكون من الخراف الصغيرة ( الطليان والفطايم ) حديثة الولادة كي ترضع حليب الأمهات، ويلاحظ أن كل “طلي” و”فيطمة” يحدد بالغريزة مكان أمه، وبعد انتهاء مدة الرضاعة تُبعد “الطليان والفطايم” عن أمهاتها، حيث تنتشر الماشية بعيداً عن النزل “التعشية”، لتبدأ مرحلة جديدة من الرعي، وهكذا تتكرر هذه العملية حتى تُفطم “الفطايم والطليان” أي أنها تمنع من رضع أمهاتها.. ويحل الربيع
بحلة جديدة، حيث يتغير وجه الأرض، ويظهر نبات جديد وتبدأ مرحلة رعوية جديدة، حتى أنّ الماشية نفسها تلبس حلة جديدة، وذلك بعد أن يُجز “يُقص” صوفها بالكامل ضمن طقوس مشهورة ومعروفة عند الرعاة.. وفي هذه المرحلة يبدأ الرعاة بجني ثمن الصوف واللبن (الخاثر) “الزبادي” والجبن، وفي الصيف تباع الذكور من الخراف، أما الإناث فتوضع في السرح، وتتهيأ للتلقيح من قبل الذكور (الكباش)، حيث أنها تعيش بعد ذلك مرحلة الولادة والأمومة. وما أن يحل الصيف، حتى نجد كامل الرعاة، قد عادوا بماشيتهم إلى أرض الزور، وإلى الأراضي التي تم فيها جني محصول القمح والشعير، حيث تبدأ الماشية برعي بقايا عيدان الحبوب التي يسميها أهل “الرقة” بـ(الْسَفِير) أو “الفراز- الفرازة”، وما أنْ تنتهي الماشية من رعي( الفراز) عيدان القمح والشعير، حتى يبدأ جني محصول الذرة الصفراء والبيضاء ومن بعده القطن، حيث تظل الماشية ترعى بقايا المحصول حتى يبدأ فصل الخريف، ومعه تبدأ دورة جديدة من الهجرة إلى المراعي في الشمال أو الجنوب.. في فترة ما بعد الثمانينيات من القرن الماضي، تقلصت مساحات أراضي الرعي بسبب التوسع في استصلاح الأراضي المعدة للزراعة، ومع حلول سنوات قحط متتالية انخفضت أعداد الماشية، وتعرض الرعاة إلى محن ومآسٍ، بسبب غلاء واحتكار مادة العلف، مما جعل تربية الماشية في منطقة “الرقة” تقف عند حدود خط الخطر.. بقي أن نشير إلى أنّ للرعاة ثقافتهم الخاصة المتمثلة بالرعي الذي يشكل الوحدة الاقتصادية الرئيسة للإنتاج والاستهلاك، وكذلك التبادل المتواضع عن طريق أسواق بلدة “الرقة” آنذاك، وكان أغلب التجار هم من مدن كبيرة مثل “حلب” و”حماة”، ومع تطور مدينة “الرقة” ونموها أصبحت العلاقات الاقتصادية بين الرعاة والمجتمع المديني تشكل العنصر الأساسي في ثقافة مجتمع الرعاة الرقيون..

نقلاً عن الباحث الرقي محمد العزو
المصادر

@- أرشيف دائرة زراعة الرقة للعام/2007م/
@- معلومات عن الرعي البدوي عبر التاريخ(*-jostor org…2020
@- britaninca com..2019